نویسنده
دکتری ادبیات تطبیقی (عربی- فارسی) دانشگاه اردن
چکیده
قد واجهت اللغة العربیة کإحدى اللغات المهمة فی العالم تحدّیاتٍ کثیرةً منذ زمن بعید ومن أهم هذه التحدیات هی العولمة وما تُمثّله من تحدّیات فی الحاضر والمستقبل. رغم کل الجهود الحثیثة التی کان ومازال یبذلها علماء اللغة والأدباء فی دراسة اللغة العربیة، نجد أن معالجة ظاهرة العولمة ومدى تأثیرها فی اللغة العربیة لم تحظَ باهتمام بالغ کما ینبغی، وهذا أدّى إلى تحدیات کبیرة تواجهها اللغة العربیة فی العصر الحدیث.
تهدف هذه الدراسة إلی معالجة ظاهرة العولمة ومدى تأثیرها فی اللغة العربیة وذلک بالترکیز على مسألتی الازدواجیة والثنائیة.
کلیدواژهها
عنوان مقاله [English]
Challenges to the Arabic Language in the Globalization Era
نویسنده [English]
- Ali Za’erivand
Ph.D. in (Arabic-Persian) Comparative Literature, University of Jordan
چکیده [English]
As one of the major languages in the world, Arabic has long been faced with many challenges, but perhaps the phenomenon of globalization and its impact on the language of the Qur’an could be considered as one of the most crucial ones.
Although linguists, writers and poets have paid much attention to Arabic in the era of globalization, its challenges have not been considered appropriately as it should have been; as a result, in the contemporary period and especially after the expansion of globalization, Arabic has been affected by the phenomenon and is still fighting the challenges.
Beside studying the phenomenon, this article is going to verify the impressions of globalization on Arabic, focusing on concepts such as "linguistic duality" (the standard language and the dialects in the society) and "bilingualism" (the existence of two different languages in a society, for instance the presence of Arabic and expansion of English and French in Arabic countries of Northern Africa).
کلیدواژهها [English]
- Globalization
- Universal
- Linguistic Duality
- Bilingualism
- Civilization and Culture
تُعدّ العولمةُ من الظواهر الشائعة فی العصر الحدیث إذ أثّرت بعد ظهورها وشیوعها فی کثیر من العلوم سواء فی بُعدها الحضاری أو الثقافی، ومن المجالات التی تأثرت بهذه الظاهرة هی اللغة العربیة حیث تُشکّل العولمة تحدیات کثیرة للغة العربیة فتؤثّر فیها سلبا. ومن أهم هذه التحدیات وأخطرها هی الإزدواجیة والثنائیة وتداعیاتهما.
رغم کل المحاولات التی یبذلها علماء اللغة والمعنیون من العرب والأجانب لخدمة هذه اللغة نرى من الأسف أن ظاهرة العولمة تنمو نموّا یومیا وتسیطر على اللغة العربیة بشکل ملحوظ وجلیّ فقلّما یهتمّ العلماء والأدباء بدراسة هذه الظاهرة وتأثیرها فی اللغة.
تحاول هذه الدراسة معالجة العولمة والتحدیات التی تواجهها اللغة العربیة فی عصر العولمة.
تبدأ الدراسة بتبیین مصطلحی العالمیة والعولمة والفرق بینهما، کما تتطرّق إلى مفهومی الحضارة والثقافة. ثم تعالج تأثیر العولمة فی اللغة العربیة منذ نشأتها إلى یومنا هذا وذلک بالترکیز على مسألتی الإزدواجیة والثنائیة وتداعیاتهما. ویختم الباحث دراسته بتقدیم بعض المقترحات للحیلولة دون توسع هذه الظاهرة ومدى تأثیرها فی اللغة العربیة.
تحدیات اللغة العربیة فی عصر العولمة
إن اللغة العربیة منذ سنین متکاثرة تواجه تحدیات کثیرة ولاسیما بعد هیمنة الاستعمار على
الدول العربیة. ومن أهم هذه التحدیات وأخطرها هی العولمة وما تلیها من الإزدواجیة والثنائیة وتداعیاتهما.
کَثُرَ الحدیث منذ مطالع العشر الأواخر للقرن العشرین عن العولمة وعما تُمثّله من تحدّیات فی الحاضر والمستقبل، ولکن الکثیرون یخلطون بین معنى العولمة (Globalization) والعالمیة (Universalism)، کما یخلطون بین معنى الحضارة والثقافة.
إن العالمیة هی تنافسٌ حُرٌّ فی فضاء رحب من الإنتاج الفکری والوجدانی، لیس فیه ضغط ولا إکراه و یفوز فیه ما له قیمة ذاتیة من داخله دون فرض خارجی.
أما العولمة فهی نشر أفکار و مبادئ و مواقف و اتّجاهات نفسیة و أنماط سلوک ومحاولة فرضها بطرائق شتّى منها الإقناع والترغیب والإلحاح علیها وتکرارها حتى تلین لها النفوس وتألفها وینتفی نتیجةَ ذلک استنکارُها وتضعف مقاومتها أو تزول.
الحضارة و الثقافة
بعد بیان معنى العالمیة والعولمة یجدر بنا أن نفرّق بین العنصرین اللذین اختلطا فی العولمة فظهرا کأنهما من صمیمها وهما الحضارة والثقافة.
إن الحضارة تشمل جمیع عناصر الجانب المادی من الحیاة ممّا نحتاج إلیه ونستعمله فی السّلم والحرب، وهی التقدم العلمی والتکنولوجی وما نتج عنهما من مبتکرات ومخترعات وإنجازات ومن ثورة المعلومات.
أما الثقافة فتشمل الجانب المعنوی من الحیاة وهی العقائد الدینیة والسیاسیة والإجتماعیة والإقتصادیة وما یترتب علیها من أنظمة وتعالیم و قیم و مبادئ و مُثل تنظّم أنماط حیاة الناس وسلوکهم و ما لهم من لغة وأدب و فن و فکر. (الأسد، 2000م، 64)
ومن منظار آخر للثقافة معنیان: معنى خاص ومعنى عام، أو معنى إبداعی ومعنى سلوکی.
أما المعنى الخاص أو الإبداعی فیتمثل فی العقیدة الدینیة للأمة ولغتها القومیة ومجموع نتاجها الفکری و الأدبی و الفنی.
أما المعنى العام أو السلوکی فیتمثل - بالإضافة إلى ما تقدم – فی القیم والعادات والتقالید وأنماط الحیاة وأسالیب التعامل.
ومما ینبغی إلیه الإشارة هو أن کل حضارة کانت قد قامت على ثقافة هی التی أنشأتها ثم لا تلبث بعد ذلک أن تُنشئ ثقافة حضاریة خاصة بها.
وفی العولمة الحضاریه المادیة یحرص الفریق المالک على أن یُغرق الفریق الآخر بصادراته وأن یجعله مستوردا مستهلکا غیرَ قادر على أن یکون منتجا؛ لأنه لا یملک من وسائل البحث العلمی وأسرار الصناعة والتقدم والتکنولوجیا وما یؤهله لذلک.
أما العولمة الثقافیة فهی أصل للعولمات الأخرى: السیاسیة والإقتصادیة والإجتماعیة والإعلامیة وسواها، وذلک لأنها هی التی تُمهّد العقول والنفوس لقبول أنواع العولمة الأخرى.
فالعولمة الثقافیة تعنی سیادة ثقافة واحدة بلغتها وفکرها وأنماط حیاتها وسلوکها، وتعنی نشر مضمون تلک الثقافة ومحتواها من أسالیب التفکیر، والتعبیر، والتذوق الفنی، وأنماط السلوک والتعامل، والنظرة إلى الحیاة والکون، وبذلک تُدمّر الخصوصیات الثقافیة الأخرى.
والشیء الذی لایجوز عولمته قطعا هو الثقافة؛ لأن الثقافة لیست هی العلم، بل هی ما یُعبّر عن خصوصیة کل أمة فی عقائدها، وفی شرائعها، وفی قیمها، وفی نظرتها إلى الکون والحیاة والإنسان، وإلى الدین والدنیا، وإلى الفرد والمجتمع. (زعتری، 2002م، 73).
فالعولمة لیست عنصرا واحدا بل إنما هی جو عام یشمل عددا من العناصر، ولاشک أن للعولمة تحدیات ووسائل تساعد على فرض هیمنتها على العالم ولا سیما العالم العربی وما فیه من الثقافة واللغة، ومن أهم هذه التحدیات والوسائل هی:
الدعوة إلى التشکیک فی اللغة العربیة وفی قدراتها على الوفاء بمطالب العلم الحدیث وبمتغیّرات العصر وبعجز حروفها وکتابتها عن استیعاب تسجیل الکلمات والمصطلحات الأجنبیة ونطقها، وکذلک استخدام اللهجات العامیة بدل العربیة الفصیحة فی الخطب والأخبار والصحف والمدارس والجامعات.
إشاعة مصطلحات جدیدة ذات مفاهیم ومضامین تحلّ محلّ المفاهیم والمضامین الأصلیة التی تتصل بحیاة الأمة وشخصیتها وحقیقة وجودها.
- نشر أنظمة الفکر والتعلیم ومصطلحاتها، وتعمیم أنموذج المؤسسات التعلیمیة الغربیة وانقلاب الجامعات من نظام إلى نظام آخر.
- الاتفاقیات والمعاهدات الدولیة کوثیقة الإعلان العالمی لحقوق الإنسان وغیرها والتی تُهدر حقّ الشعوب فی أن تعیش وفق ثقافتها وعقیدتها.
- الأفلام والمسلسلات المتلفزة والأغانی الأجنبیة التی تطالعنا فی کلّ مکان وهی محمّلة بأنماط الحیاة وأسالیب التفکیر والسلوک الغربیة وخاصة أمریکیة.
فهذه الوسائل والتحدیات تعتبر أداة غزو نفسی ولیست غزوا ثقافیا؛ لأن الثقافة لا تُغزى غزوا مباشرا تتأثر به فی ذاتها، وإنما تُغزى نفوس أصحاب الثقافة بما یبُثّ فیها. (الأسد، 2000م، مؤتمر اللسانیات)
اللغة العربیة والعولمة
بعد انتشار العولمة فی أرجاء الکرة الأرضیة غزت البلاد العربیة أفکار وآراء ونظریات مغرضة، خلاصتها أن اللغة العربیة الفصیحة صعبة لأجل نحوها وحروفها وحرکاتها وکتابتها، واتّهموها بأنها جامدة و فی طریقها نحو الزوال؛ فسعى بعض المستعمرین و العرب المقیمین إلى إحلال اللغات الأجنبیة محلّها، فادّعوا أن اللغات الأجنبیة حیة، إذ تحمل مضامین الحضارة والتقدم، بینما اللغة العربیة الفصیحة هی لغة متأخرة، أصیبت بالهرم والعقم، ولذا نادوا بنبذها من البیت العربی والمدرسة والمعمل، وأنکروا علیها حتى قدرتها على تأمین شؤون التخاطب بالأمور الیومیة وشجون التحاور بالأغراض المعاشیة. (طحان، 2004م، 34-35) وفی حقل متحیّز آخر دعا کثیر من المستشرقین وأبناء العرب إلى اتخاذ اللهجات العامیة بدل اللغة الفصیحة لسهولتها وخلوّها من الإعراب والقواعد وکذلک قدرة فهمها لدى جمیع العرب.
الإزدواجیة والثنائیة
وهنا لابدّ من الإشارة إلى مصطلحین أساسیین فی هذا المجال وهما: الإزدواجیة والثنائیة.
الإزدواجیة هی وجود لغة واحدة مزدوجة فی مجتمع واحد؛ أی تقابل اللغة الفصیحة واللهجات العامیة.
أما الثنائیة فهی وجود لغتین مختلفتین فی مجتمع واحد کاللغة العربیة مع سیطرة أو شیوع اللغة الإنکلیزیة أو الفرنسیة فی الدول العربیة فی إفریقیا.
قبل أن نخوض فی تداعیات العولمة على اللغة العربیة یجب أن نبیّن الفرق بین الفصیحة والعامیة؛
لغة الأدب أو الفصیحة هی اللغة التی تستخدم فی تدوین الشعر والنثر والإنتاج الفکری عامة، أما
لغة الحدیث أو العامیة فهی اللغة التی تستخدم فی الشؤون العادیة ویجرى بها الحدیث الیومی.
والأولى تخضع لقوانین تضبطها وتحکم عبارتها، والثانیة لا تخضع لمثل هذه القوانین لأنها تلقائیة
متغیرة تتغیر تبعا لتغیر الأجیال وتغیر الظروف المحیطة بهم. و وجود العامیة بجانب الفصیحة على ما بینهما من اختلاف، ظاهرة طبیعیة فی کل اللغات کما نجدها فی اللغة الإنکلیزیة والفرنسیة والفارسیة و...إلخ.
إن اللغة العربیة منذ الجاهلیة کانت تختلف فی لهجاتها، ولکن لم تکن بعیدة عن بعض بُعد العامیة عن الفصیحة الحالیة. فالإزدواجیة اللغویة فی العربیة نشأت بعد أجیال من أهل الفتح فی الأمصار الإسلامیة نتیجة للاحتلال والاختلاف بین سَنَنِ اللغة الفصیحة المقعّدة المکتوبة المنزوع بها نحو الثبوت، وسنن اللغات المنطوقة المرسلة فی الحیاة الیومیة العامة.
ولکن العربیة فی واقع الاستعمال الیومی وعلى مستوى عامة الناس أخذت تُطُوِّر نمطا لغویا أو مستوى لغویا مفارقا، ذلک أنه لمّا خرج العرب إلى الأمصار فاتحین خرجوا یحملون لهجاتهم المتباینة. وهناک اختلطت اللهجات فیما بینها، کما تلاقت اللهجات العربیة ولغات الأمم فی الممالک المفتوحة. وکان هذا الاختلاط المباشر الذی أَعقب الفتح أحدَ العوامل فی تشکّل اللهجات العامیة، فقد أدّى إلى تحوّل ألسنة العرب أنفسهم، کما أدّى إلى تحوّل العربیة على ألسنة الأمم التی دخلت الإسلام فی الممالک المفتوحة. (موسى، 2006م، 130)
تطرّقَ العلماء منذ قدیم الزمن إلى دراسة العامیة وذلک بهدف خدمة الفصیحة. أما وجود الفصیحة فی یومنا هذا - فی رأی مناضلیها- تعتبر مشکلة أرجع إلیها أسباب تأخر أبناء العربیة. فاقترحوا اتخاذ العامیة لغة للأدب والکتابة حتى تکون للعرب لغة واحدة للحدیث والکتابة، ولیس من العسیر أن نفهم مصدر هذه الدعوة فی مطلعها کان أجنبیا، إذ اهتم الأجانب بدراسة اللهجات العربیة العامیة منذ القرن التاسع عشر وذلک عبر مایلی:
- إدخالهم تدریس اللهجات العامیة فی مدارسهم وجامعاتهم کما فعلته کلّ من إیطالیا والنمسا وألمانیا وإنکلترا.
- اهتمامهم بالتألیف فی اللهجات العامیة.
وهدفهم من هذا کان لأجل القضاء على العربیة الفصیحة وإحلال العامیة محلّها. (زکریا، 2001م، 9-42)
فالتآمر على اللغة العربیة فی العصر الحدیث جاء من الغرب بالترکیز وتکریس اللهجات المحلیة، فقد کان المستشرقون أول من دعوا إلى الکتابة بالعامیة وفی مقدمتهم مثلا المستشرق الیسوعی الأب لامنس، والبعثات إلى الشرق الأوسط فی بعض الأحیان اتخذ شکلا تبشیریا، وبعضها اتخذ شکلا فردیا بصورة بعث دبلوماسی أو تاجر مثل لوران دارفیو؛ فهؤلاء أتوا لدراسة المنطقة وفی الوقت نفسه لوضع دعائم رکائز الاستعمار، وضرب أهم المکونات الحضاریة لتلک المنطقة ألا وهی اللغة العربیة حافظة الدین والتراث والقیم والعادات. (زعتری، 2002م، 31)
ففی عام 1880 نشر ولهام سبیتا مدیر دار الکتب المصریة کتابا باللغة الألمانیة، فی قواعد العربیة فی مصر وحاول تنفیذ المخطط الإستعماری للقضاء على اللغة العربیة کما ذهبت إلى ذلک الدکتورة نفوسة زکریا فی الباب الأول من أطروحتها الموسومة «تاریخ الدعوة إلى العامیة وآثارها فی مصر». فکانت هذه الدعوى محل استغلال من قبل الاستعمار الإنکلیزی لمصر.
وفی سنة 1881 دعت مجلة المقتطف رجال الفکر إلى بحث إحلال العامیة محل الفصیحة. وکان کتاب لغة القاهرة – الذی ألّفه القاضی الإنکلیزی بالمحاکم المختلطة بمصر، ویلمور- محاولة لإظهار هذه الدعوى على أرض الواقع. و قد کان ویلمور هذا أول المبشرین بدعوة استبدال الحروف اللاتینیة بالحروف العربیة.
وفی عام 1892 ألقى ویلکوکس خطابا فی نادی الأزبکیة بالقاهرة، عزا فیه سبب تخلف
المصریین – عن التقدم فی میدان المخترعات الحدیثة- إلى اللغة العربیة الفصیحة. (نور المدنی، 2002م، 85)
ومن هذا یتضح أن الدعوى إلى العامیة صنیعة عقول أجنبیة استهدفت إقصاء الفصیحة عن حیاة العرب و إبعادهم عن لغتهم القومیة، بل إبعادهم عن الدین الحنیف.
ومن العرب الذین تأثروا بالدعوة إلى العامیة إسکندر المعلوف و قاسم أمین و سلامة موسى و أنیس فریحة و سعید عقل و ... إلخ.
لکن سلامة موسى کان أبعد هؤلاء أثرا وأخطرهم شأنا، لأنه تبنّى آراء ویلکوکس فادّعى فی کتابه البلاغة العصریة واللغة العربیة أن سبب تخلّف العرب وسبب حرمانهم من معیشة الحیاة العصریة والتقدم الصناعی هو تقلبهم بین لغتین: لغة التخاطب (العامیة) ولغة الکتابة (الفصیحة). ورأى أنه «یجب ألا یکون للمجتمع لغتان إحداهما کلامیة أی عامیة، والأخرى مکتوبة أی فصحى، کما هی حالنا فی مصر و سائر الأقطار العربیة». (م ن، 87)
ویُرجِع سلامة موسى کلّ تخلّف الأمة إلى اللغة، فالمرأة متخلّفة بسبب اللغة، وحیاة العرب متخلفة بسبب اللغة، وحیاة العرب الدیمقراطیة متخلفة بسبب اللغة، والأمة العربیة متخلفة بسبب اللغة، وقس على ذلک!!
ولکن ثمة مشکلات کثیرة فی طریق تنفیذ مشروع الدعوة إلى العامیة، منها تباین اللهجات العامیة؛ فاذا استطعنا بفرض محال أن نؤلّف کتابا باللهجة المصریة، هل یستفید منه لبنانی شیئا؟ وعلى لهجة أیّة مقاطعة فی مصر نعتمد؟ بل أیة مدینة، بل أیّة قریة وأیّة حارة نعتمد؟ وکذلک عدمُ صلاحیة العامیة للکتابة لخلوّها من الروح التی تحملها اللغة الفصیحة تُعدّ من حواجز أخرى لاستخدام العامیة بدل الفصیحة. بینما عندنا لغة شائعة معروفة فی جمیع الأقطار العربیة حیث یفهمها کلّ الشعوب العربیة. ألیس هذه أجدر من تلک؟
فلیست العامیة بمؤهلة لأن تکون غایة المدى فی سیاستنا اللغویة، فإن ضیق العامیة ومحدودیتها، وغیاب نظام لها فی الرسم والنحو، وتعدّد العامیات على نحو متماوج متغیر یستعصی على الحصر، وانقطاع الأسباب بین العامیة وبین تجربة التعبیر الأدبی والعلمی، واقتران الفصحى بالقرآن وتراث غنی ضخم... کلّ ذلک قد أسفر عن نقض الدعوة إلى إحلال العامیة محل الفصیحة، وهی تجربة من الأمس القریب یُغنینا الاستهداء بها عن إعادة التجربة. (موسى، 2006م، 134) والفصیحة لم یکن اکتسابها متعذرة حین تتحقق لذلک شروطه، وشروط الاکتساب هی توافر المحیط الإجتماعی لاستعمال الفصیحة والتعرض لها فی مواقف الاستعمال، والانغماس المباشر فی استعمالها. (موسى، 1999م، 185)
أما اللهجات العامیة فحقیقة وضرورة لایمکن غض النظر عنها أو إنکارها ولاسبیل إلى القضاء على اللهجات العامیة لأنّ لکل مقام مقالا وإذا وضعنا اللغة الفصیحة موضع العامیة لظلمنا أطفالنا وعوامنا.
إذن، اللهجات العامیة هی اللغة العربیة فلیست خطرا؛ بل إنما الخطر هو فی الدعاة. وفی الحقیقة هم دعوا إلى شیئین: إما اللهجة المصریة وإما اللهجة اللبنانیة، وبطلان هذه الدعاوى واضح. کما بدأت منذ العقد الثالث من القرن المنصرم مناقشات کثیرة فی مجمع اللغة العربیة بالقاهرة حول الخط العربی و إحلال العامیة محل الفصیحة... وکلها باءت بالإخفاق وبقیت اللغة العربیة مرفوعة الرأس. وهذا لا یعنی أن معاندی اللغة العربیة لن یؤثروا فى هذه اللغة الثمینة، بل علینا أن نقاومهم بشتّى طرق ونبذل قصارى جهدنا فی هذا المجال؛ لأن دعوة السوء سریعة الانتشار:
مقالة السـوء إلى أهلها أسرع من منحدر سائ
ومن دعا الناس إلى ذمها ذمّوه بالحق وبالبـاطل
ثمة تحدٍّ أکبر وأخطر من إحلال العامیة محل الفصیحة وهو الثنائیة وماتلیها من الدعوة إلى استبدال الحرف اللاتینی بالحرف العربی والتعلیم الجامعی باللغة اللاتینیة.
الثنائیة تحدٍّ یزحف إلى المدارس والمعاهد والجامعات ویتملک نفوس الأساتذة والطلاب على مختلف مستویاتهم... بل إن هنالک معاهد وجامعات تناضل من أجل تعمیم اللغة الأجنبیة للذین بین جدرانها ...تحدٍّ یزحف إلى البیوت، فیسلبنا کلیا، فإذا الملابس وأنواعها وألوانها وطرازها بلغة أجنبیة ..وإذا المآکل وأنواعها وطریقة استهلاکها وقبولها ورفضها من الجیل الناشئ متعلق بمدى تسمیتها بالأجنبیة..(المعوش، 2002م، 114)
استبدال الحروف اللاتینیة بالحروف العربیة
وإذا أمعنّا النظر فی الدعوة إلى استبدال الحروف اللاتینیة بالحروف العربیة نجد أنها بدأت على ید المستشرقین فی مصر فی أواخر القرن التاسع عشر ومن أوائلهم المستشرق الألمانی ویلهام سبیتا الذی ألّف کتابا فی عام 1880 وسمّاه قواعد اللغة العامیة فی مصر ودعا فیه إلى الکتابة بالعامیة وتلک بالحروف اللاتینیة؛ یعنی دعا إلى أمرین فی غایة الخطورة؛ وهما الکتابة بالعامیة واستبدال الحروف اللاتینیة بالحروف العربیة.
وبعد مرور عشرین عاما جدّد المستشرقُ الإنکلیزی ویلمار الدعوةَ إلى استخدام الحروف اللاتینیة بدل الحروف العربیة عام 1902. وقد أیّد هذه الدعوة من أبناء العرب أمثال إلیاس صالح وعبد العزیز فهمی و ....
وکانت حجة من دعوا إلى تبدیل الحرف العربی بالحرف اللاتینی هی أن الضبط والشکل للحروف العربیة یؤدیان إلى ثقل الکلام والصعوبة فی الکتابة والقراءة، کما أن عدم ضبط الحروف بالحرکات قد یُسبّب الخطأ فی القراءة ومن ثَمّ الخطأ فی فهم النص.
ولاریب أن التردد فی قراءة بعض الکلمات المحتملة یؤدی إلى رجع النظر فی السیاق لتقدیر وجه الضبط والقراءة الصحیحة. ولکن اقتراح کتابة العربیة بالحرف اللاتینی لم یکن خالصا للإصلاح؛ بل وُصم بالمؤامرة. ولا شکّ أن نظام الکتابة العربیة ینطوی على مواضع محتاجة إلى تدابیر إصلاحیة، ولکنّ أولى ما یحتمله المقام هنا أن الدعوة إلى کتابة العربیة بالحرف اللاتینی کان تدبیرا یستهدف إخراج العربیة من صبغتها الثقافیة الخاصة. وذلک أن نظام الکتابة – وإن عُدَّ ثانویا فی تعبیره عن الحقیقة اللغویة عند علماء اللسان – لا یلبث أن یغدو رمزا لهویة اللغة وأهلها (موسى، 2006م، 33).
فلیس وهما أن تکون الدعوة إلى اتخاذ الحرف اللاتینی لکتابة العربیة ولغات أخرى تدبیرا من تدابیر الهیمنة یبیته الغرب اللاتینی حین تسنح له الظروف الغلبة السیاسیة والتفوّق الحضاری. وعلى سبیل المثال فقد فرضت السلطات الفرنسیة فی الجزائر استعمال الحروف اللاتینیة فی الکتب المدرسیة جمیعا فی أواخر القرن التاسع عشر. ثم سعت إلی استطلاع إمکان السیر فی هذه المحاولة فی تونس سنة 1910.
رغم کلّ ما مرّ بنا، أن الدعوة إلى استبدال الحرف اللاتینی بالحرف العربی دعوة باطلة نهائیا
لأنه:
1: لا یوجد مقابل فی الحروف اللاتینیة لعدد من الحروف العربیة.
2: لکل لغة طبیعة ولکل لغة حروفها وکتابتها الخاصة بها والحروف العربیة ضرورة لایمکن العدول عنها؛ لأن الخط العربی وُضِع موافقا للطبیعة العربیة.
ولاننسى أن الکتابة بالحروف اللاتینیة ستقطع بین الحاضر والماضی وتَمنَعُنا من الإفادة من تراثنا وهذا هو حال الأتراک الذین انفصلوا عن تراثهم العثمانی وذلک بعدما قام مصطفى کمال آتاتورک فی ترکیا باستبدال الحروف اللاتینیة بالحروف العربیة.
والیوم رغم کل الجهود الحثیثة التی یبذلها العرب المعارضون للکتابة اللاتینیة نجد بکل أسف أن الدعوة إلى استخدام الحرف اللاتینی بدل الحرف العربی عادت فی العصر الحدیث عودة غیر مباشرة کما نرى الآن فی الرسائل القصیرة (Sms) أو فی الدردشة (Chat) تُستخدم الحروف اللاتینیة. ألیست هذه دعوة خفیّة إلى استبدال الحروف اللاتینیة بالحروف العربیة؟
هذا والذی یُمهّد الطریق لاستبدال اللغة الأجنبیة باللغة العربیة ویساعد طموحات الخبثاء فی تحطیم هذه اللغة هو استعمال اللغة الأجنبیة فی التدریس الجامعی.
نرى الآن البلاد العربیة من المحیط إلى الخلیج – ماعدا سوریا – تستخدم اللغة الأجنبیة فی تدریس العلوم التطبیقیة. ویقول بعض إن المصطلحات الأجنبیة تنمو نموا یومیا ویُقدّرون أن مئات من المصطلحات تلد یومیا ولا قدرة على ملاحقتها، ولذلک لابُدّ من استعمال اللغة الإنکلیزیة مع مصطلحاتها أو اللغة الفرنسیة مع مصطلحاتها.
والحقیقة أن المصطلح الأجنبی یجب ألا یکون حاجزا بیننا وبین استعمال اللغة العربیة فی التدریس؛ لأنه لا توطین للعلم فی أی أمة من الأمم إلا باستعمال لغتها الوطنیة. (من محاضرة الدکتور ناصرالدین الأسد، ألقاها فی الجامعة الأردنیة بتاریخ 28/10/2008) فلذلک، نستطیع أن نعرّب المصطلحات الأجنبیة وإن لم نتمکن من ذلک فنأخذ المصطلحات الأجنبیة على شکلها الأصلی ونُدخلها فی کتبنا أو تدریسنا دون أن نتخلّى عن لغتنا.
واستعمال اللغة العربیة فی التدریس الجامعی فی الموضوعات التطبیقیة أمر ممکن ومیسور؛
لأنه عندنا تجارب کثیرة فی هذا المجال منها تدریس العلوم الطبیة والهندسة باللغة العربیة
فی الکلیة البروتستانیة السوریة التی سُمّیت الجامعة الأمریکیة واستمرّ التعلیم والتألیف باللغة
العربیة فی هذه الموضوعات فی تلک الکلیة من سنة 1866 إلى سنة 1882. وکذلک تجربة أخرى فی مطالع القرن العشرین ومازالت مستمرة، هی تدریس هذه الموضوعات العلمیة النظریة والتطبیقیة فی الجامعات السوریة (الأسد، 2007، مجتمع المعرفة والتحدیات اللغویة).
وفی ظلّ کل هذا نقول إن أکبر تحدٍّ تواجهه اللغة العربیة هو عدمُ إیمان أصحاب القرار بها، واعتقادهم أنها أصبحت لغةً من الماضی وأن لغة الحضارة والحداثة والتقدّم هی هذه اللغة الأجنبیة (المرجع السابق)... ونعلم أن إیمان الأمة بضعف لغتها، یُسهّل على الأعداء تدمیرها. فاللغة هی فکر الأمة، والأمة بلا فکر أمة زائلة.
النتیجة
فهذا واقع اللغة العربیة وما تواجهها من التحدیات. والسؤال الأساس من هو المسؤول عن هذه القضایا؟ کیف یمکن أن نواجه هذه التحدیات؟ وکیف یمکن إحیاء اللغة العربیة الفصیحة؟
نحن تعوّدنا علی أن نُحَمِّل المسؤولیة للمستشرقین والأجانب، وهذا فیه جزء کبیر من الصحة؛ لأنهم یهاجموننا فی حملات مسعورة لکن کلّها لم تنتهِ إلى شیء؛ والذی انتهى إلى شیء هو ما نفعله نحن. وعلى الجمیع ألا یألوا جهدا فی سبیل مواجهة هذه التحدیات و إحیاء اللغة العربیة الفصیحة، ولذلک:
1: على الحکومات العربیة أن تهتم بقطاع التربیة والتعلیم شکلا ومضمونا، والبحث عن الوسائل الفاعلة لإخراجه من الثنائیات التی تحکمت فیه خلال العقود الماضیة.
2: على المعلمین والأساتذة (النُخَب) أن یتجنّبوا من اللهجات العامیة فی جمیع المواد وجمیع المستویات ویلقوا دروسهم ومحاضراتهم باللغة العربیة الفصیحة.
3: على وسائل الإعلام المرئیة والمسموعة والمقروءة الاهتمام بکشف وسائل العولمة وتقنیتها وطرق مکافحتها و إخبار الشعوب بتداعیات العولمة وآثارها السلبیة، وکذلک إنتاج برامج تشجیعیة متطورة باللغة الفصیحة قادرة على مواجهة الشبکات العالمیة التی تهدف کیان الأمة.
4: على المجامع والمؤسسات المعنیة باللغة العربیة عقد الندوات الدولیة والاستعانة بتجربة الخبراء والأخصائیین فی هذا المجال بغیة معالجة تحدیات اللغة العربیة وطرق الحیلولة دونها.
5: على الأمة نفسها أن تدرک مدى خطورة هذه التحیات وألا تُلبّی تلک الدعوات الخبیثة التی تُسمَع هنا وهناک لتحطیم لغة القرآن الکریم.